إن طلب خريطة يعني أن تقول أخبرني قصة!
إن طلب خريطة يعني أن تقول أخبرني قصة! هكذا استفتح الكاتب بيتر تورتشي كتابه Maps of the Imagination: The Writer as Cartographer والذي يوضح فيه أن كتابتنا أشبه ما تكون برسم خريطة. يقارن الكاتب بيتر تورتشي الطريقة التي يقود بها الكاتب القارئ من خلال العالم الخيالي لقصة أو رواية أو قصيدة بالطريقة التي يرسم بها صانع الخرائط العالم المادي. أنت حينما تكتب ترسم خريطة لاكتشاف مناطق جديدة وعرضها، أملك حينما تكتب أن يصل القارئ لوجهه معينة تريدها أنت أو يتوقعها القارئ، كما يصل قارئ الخريطة لوجهته المحددة. الكتاب يحتوى على الكثير من الأفكار و الاراء التي لم اتطرق لها في مقالتي هذه — ربما في مقالة قادمة — المقالة ليست مخلص للكتاب ولا رأي
الكتابة كفعل تم تحديدها بأنها عمليتين منفصلتين متداخلة ومختلفة في التركيز ولكنهما في كل الأحوال متسلسلة. كلهما يؤدي إلى الاكتشاف. العملية الأول هي الاستكشاف بتعريف أنه مزيج من البحث مع سبق الإصرار والترصد غير المنضبط. يتضمن كتابة الملاحظات والنظر في المشاهد أو الخطوط أو الصور المحتملة، أو اختراع الشخصيات أو حتى كتابة المسودات. أنت في عملية الاستكشاف تواجه افتراضاتك غير المؤكدة وغالبا ما تبدأ في بدايات خاطئة وخطوات ومفاجات - كل هذه الأجزاء مألوفة لدى الكاتب. مع الاستمرار تكتشف قصتك في عالم أو بُعد تلك القصة. الفعل أو العملية الكتابية الأخرى هي العرض، بتطبيق المعرفة والمهارة والموهبة التي تمتلكها تقوم بإنشاء مستند هدفه الأساسي التواصل مع الآخرين والتأثير عليهم. هنا أنت تحاول إنشاء سياق لقيادة القارئ وقيادته. في مرحلة ما تنتقل من دور المستكشف الذي يحاول اكتشاف ما يدور في عقله إلى دور المرشد الذي يرشد ويقود القارئ إلى ما توصل له من اكتشاف. مع ملاحظة أنه قد يحثك عقلك إلى العودة إلى دور المستكشف مره أخرى.
كما وصف الكاتب” الإبداع هو رحلة للمجهول، في نظرنا هو خارج الخريطة “ . حسب تعبير الكاتب نحن نحاول اكتشاف ما نعتقد أنه مياة مجهولة لنجد أنفسنا نبحر في حوض استحمام شخص آخر. في هذه الأيام يبدو أنه لا يوجد شيء جديد لاكتشافه سوى قيود تجربتنا وفهمنا. على عكس الكتابات القديمة. نحن الآن لا نكتب عن لماذا يأتي المطر؟ ومتى يتوقف؟ من النادر أن تقودك كتابتنا اليوم بمهمة شرح الطبيعة.
في كل قطعة نكتبها نتأمل العالم العالم الخاص بنا هذا العالم الذي لم يكن موجود لولا كتابتنا، أي أننا نخلقه عندما نكتشفه. حينما تكتب قد تود في البداية في وصف حالة ما إلا أن وصف شيء يأخذنا إلى الكثير من الاحتمالات. ككاتب أنت تخلق عالم بناء على اختيارات محددة ابتدا من الكلمة الأولى حتى اختيار اللغة التي ستكتب بها. أنت تواجه نفس التحدي مع كل قصة جديدة تكتبها، هناك عدد لا يحصى من الاتجاهات في كتابة عمل ما. ولا يوجد سبب للاعتقاد بأن أحد هذه الاتجاهات أفضل أو أكثر صحة من الناحية الفنية. مع كل هذه الاحتمالات يجب عليك اختيار اتجاه واحد فقط. حسب رأي الكاتب العمل بأكمله محكوما بالنية، من خلال تحديد نيتك من الكتابة ستقرر كيف تبتدأ عملك وما المعلومات المناسبة لتضمينها. ما يجب علينا ملاحظته أن اكتشافنا يشمل تحسين نيتنا وتحديد أفضل طريقة لتقديمها.
الفراغ غير المكتوب هو التحدي الذي اخترنا مواجهته. نحن نواجه الأمر لأننا مثل مكتشفي العالم المادي نريد معرفة المزيد عن أين — ولماذا وكيف — نعيش. نحن نواجه الأمر لأننا بطريقة ما ملهمون وغير راضين عن ما نعرفه وما قرأناه. تتضمن الفراغات الغير مكتوبة القصص والقصائد التي لا نلتزم أبدا بها على الورق أو نتردد في كتابتها والقطع التي نتخلى عنها في منتصف عملية الكتابة وأيضا الشخصيات التي نفشل في تجسيدها والمشاعر التي لا يتم استفزازها والأفعال المهمة المسموح بها خارج المسرح؛ كل عمليات الحذف التي نعتقد أنها غير مكتملة أو لم يتم تطويرها بشكل كافٍ. كل اختياراتك في كل قصة تكتبها تعني بشكل أو بأخر أنها تحتوي على فراغات غير مضمنة. أنت حينما تكتب رواية وتبدأ في خلق وصناعة عالمك الخيالي. فأن قراراتك في الكتابة لا تشمل الجغرافية أو المكان بل تشمل أيضاً أين ومتى يبدأ السرد وينتهي، وما يتضمن وما لا يتضمن، ماهي الإجراءات والمحادثات التي تعتبر جديرة بتضمينها في عالمك (عالمك الذى اخترت بناءه في كتابك ). أنت قد تعطل حتى الشخصيات، كثير من الشخصيات في عالمك الكتابي الخيالي لا تحتوي على اسم قد يكون مجرد طفل يلعب أو ربما بائع الكعك، هذه هي الفراغات الغير مكتوبة. أيضاً في عالم الروايات الشخصيات قد لا يكون لديهم أصحاب ولا زملاء ولا التزامات، قد لا يحتفلون في الأعياد و لايكون لديهم أباء أو اقارب. أنت لا تذكر أو تغيب نصف يومهم أنت لا تذكر نومهم ولا تلقيهم لأظافرهم ولا حتى دفع فواتيرهم. مساحة الفراغ تكبر كلما قلصت في كتابة القصة ولم تسهب في كثير من التفاصيل وحتى مع إسهابك ستترك الكثير من المساحة الفارغة فلكل رواية غياباتها. يجب عليك حينما تكتب أن تركز على توجيه القارى بحيت لا يتم ملاحظة هذه الفراغات وإقناعه أن عالم القصة مليء أو كامل.
إن الفهم الكامل لما لا نعرفه هو بحد ذاته معرفة جديدة، ويعيد تعريف ما نعرفه. الإغفالات أو المساحات الغير مكتوبة المقصودة والغير مقصودة في الكتابة تثير الخيال لدى القارئ. إن إثارة “المغامرة الخيالية” هي إحدى الوظائف الحاسمة للفراغات في العمل. يحاول الكاتب كما ذكر أن يكتب دائما تحت مبدأ جبل الجليد. يوجد سبعة أثمان منه تحت الماء لكل جزء يظهر. “ إذا كان كاتب النثر يعرف ما يكفي عما يكتب عنه، فقد يحذف أشياء يعرفها هو والقارئ، فسيشعر القارئ بهذه الإغفالات كما لو أن الكاتب قد صرح بها.
حينما نذكر المساحات الفارغة يجب علينا أن نذكر استخدامها في فصل الاقسام. أنت ككاتب تترك لمخيلة القارئ التخيل لما بعد نهاية فصل ما من فصول قصتك أو لنكون أكثر تحديدا لتخيل القارى لفراغ الأحداث الموجود بين نهاية الفصل وبداية الآخر. يقال أحيانا أن الخيال الأدبي يوفر للقارئ نافذة على عوالم أخرى. تم وصفه على أنه مرآة تعكس عالمنا إلينا. لتوضيحس فكرة الانعكاس هذه ذكر الكاتب مشهد من فيلم Duck Soup — أدهشتني عبقرية الكتاب في ربطه المشهد بالخيال الأدبي — في فيلم
يمشي غروتشو أمام ما يعتقد أنه مرآة لكن بدل من ذلك يقف هاربو على الجانب الآخر مرتدياً زياً متطابقاً. ما إن يتحرك غروتشو يتحرك هاربو. أحدهما هو الرجل الحقيقي والآخر يعكسه. في البداية يعتقد غروتشو أنه ينظر المرآة بينما يحاول هاربو الحفاظ على هذا الوهم. لكن غروتشو يعرف أن المرآة مكسورة، ويعرف أنه ينظر إلى الوهم ويقرر إخضاع هذا الوهم أو المرآة المزيفة لسلسة من الاختبارات. يجلس المشاهد أمام المرآة (القارئ) في انتظار رؤية ما سيتم الكشف عنه (القصة). يمكننا أن نقول أن غروتشو هو القارئ وهاربو القصة، أو انعكاس خيالي — ليس مجرد انعكاس بل عالم متميز من الاحتمالات، عالم يمكن أن يعكس أو يضخم أو يحجم الكلمات أو الجمل الموجودة في وصف القصة. هذا الانعكاس أو الاحتمال يمكن أن يكون بمقربة من الخط الوهمي أو يترك مسافة رسمية أو يدخل مباشرة إلى حياتنا.يعتقد الكاتب العبقري تورتشي أن المرآة أو الحاجز تعتمد على على ما وصفه ب Suspension of disbelief
هذا المصطلح تُعرفه ويكيبيديا بأنه تجنبنا المتعمد للتفكير النقدي أو المنطقي عند القراءة، وهو إن أردت أن ابسطه أكثر سأقول تعليق عقلك المنطقي عن قول أنه نص خيالي إن صح التعبير — حسب ما أرى أن الكثير من الروايات والأفلام تعتمد بشكل كبير على هذا المصطلح، أرى أن الكاتب الجيد هو ما يجعلنا كقراء ومشاهدين نسمح لأنفسنا بالاعتقاد بأنها ليست مجرد نص بل وننخرط في خيال أنها شيء حقيقي، نتخلى بسرعة عن منطقيتنا و نبدأ في بناء هذا العالم. — الرؤيا الأخرى للتشبية أو الانعكاس هي أن غروتشو هو القارئ وهاربو هو الكاتب، ككتاب لا يمكننا التحدث مباشرة إلى كل قارئ فردي ولكن من خلال كتاباتنا يمكننا الخداع والتلاعب والتنوير، نحن ككتاب نحاول أن نصل أو نعكس إلى ما يريده القارئ
ربما يكون الفراغ النهائي هو المسافة بين القارئ والكاتب أو بشكل أدق المسافة بين القصة التي نخلقها ونرسلها إلى العالم والقصة التي يتصورها كل قارئ. يعيد القراء الكتاب على الرف وهم مدركين لما كان عبارة عن مساحة فارغة أو خواء أو صحراء لم تكن من قبل في مشهدهم الخيالي. باستخدام قلم الكاتب الغير مرئي أضفنا خط إلى مخطط عالمهم. حاولت في شرحي هنا أن أكون قريبة جدا من شرح الكاتب حتى لا أسقط شيء قد يكون له أهمية في فهم المعنى.
باعتبار أن الكتاب خريطة وأن قرأتنا لها ما هي إلا رحلة فإن الخريطة إذا لم تخبرنا بما نريد أن نعرفه أو توضح بوضوح ما تود إخبارنا في مجرد رسمة أو زخرفة. على الكاتب أن يكافئ كل من اختار رحلته أو كتابه بعالم واضح. التحدي يكمن في إيجاد طرق للتعبير عن ما نريد إيضاحه، من خلال كتابتنا نريد الوصول إلى شيء لم يتم إدراكه أو لم يتم تقديمه بالطريقة التي نراها بنظرتنا الفريدة للعالم. ما إن ننتهي من كتابتنا يتضح لنا أننا رسمنا عالمًا خياليًا وليس طريقًا محددًا للقارىء، كل قارىء سيرى عالمنا بطريقة فريدة تميزه، من هنا يجب إن نبدأ، من الورقة البيضاء